في عام 1981 صدر فيلم فرنسي يحمل اسم Quest for Fire للمخرج Jean-Jacques Annaud الذي اقتبس فيلمه عن رواية تحمل نفس الاسم للبلجيكي J.-H. Rosny صدرت قبل الفيلم بسبعين عاما، و يتحدث الفيلم (و الرواية) عن عصور الإنسانية الأولى البدائية جدا , ففي ذلك الوقت لم يكن البشر -حسب وجهة نظر الكاتب- يتقاتلون من أجل الماء و الطعام، بل من أجل النار ! فالبشر كانوا بالكاد قد اكتشفوا “النار” و اكتشفوا فوائدها، و في تلك المرحلة المبكرة من علاقة البشر مع النار لم يكونوا يعرفون بعد كيف يشعلونها و كيف يستحدثونها من العدم، إذ كانوا يعثرون عليها مُضرمة لوحدها في الطبيعة أثناء تجوالهم فيأخذون منها شعلة، و يحرسونها ليل نهار، حتى أن بعض أفراد القبيلة يسهر في الليل بينما البقية نيام لحماية الشعلة و منعها من الإنطفاء .
ينقلنا الفيلم إلى ذلك العصر ليصور لنا قصة قبيلة تنطفئ شعلتها بسبب غارة من قبيلة أخرى، فيقررون إرسال ثلاثة من أبنائهم لإحضار شعلة جديدة في رحلة يتخللها العديد من الصعاب من مواجهة الضواري المفترسة و القبائل الأخرى، ناهيك عن بعض الخلافات بين الأبناء الثلاثة التي تكون الغيرة منبعها الأساسي.
و بعيدا عن الفيلم و الرواية صدر في العام الماضي لعبة لها نفس أجواء الفيلم تقريبا تحمل اسم From Dust و هي للمصادفة لعبة فرنسية أيضا للمصمم الفرنسي Eric Chahi الذي قدم لنا لعبتان تعتبران من العلامات الفارقة في صناعة الألعاب بنظري، لعبتا Another World و Heart of Darkness، و هما للمعلومية يعتبران من أكثر الألعاب تأثيرا في مصمم فرنسي آخر هو Michel Ancel الواقف خلف سلسلتي Rayman و Beyond Good & Evil .
في لعبة From Dust يأخذنا المصمم Eric Chahi تقريبا إلى ذات الحقبة التي يأخذنا إليها فيلم Quest for Fire ليصور لنا صراع الإنسان البدائي مع الطبيعة أو بالأحرى مع كوارثها، من خلال أسلوب لعب يمزج عناصر المحاكاة مع عناصر التخطيط (الإستراتيجية)، ففي كل مرحلة من اللعبة يتوجب على اللاعب -الذي بمقدوره التحكم في جميع أفراد القبيلة- أن يقوم بقيادة القبيلة لبناء عدة مستعمرات سكنية على خريطة المرحلة المملوءة بمختلف أنواع المخاطر الطبيعية من براكين و حرائق و أمطار غزيرة و سيول و أمواج تسونامي، و لتحقيق هذا الهدف عليه العمل على تغيير شكل الخريطة بإزالة الماء من بعض أجزائها، و طمر بعض أجزائها بالرمل ، و تسخير التغييرات التي تحدثها الكوارث الطبيعية على شكل الخريطة لخدمة القبيلة , و نقل بعض المستعمرات من مكانها و غير ذلك .
و رغم أن لعبة From Dust لا تملك قصة تذكر، و لا أي حبكة كفيلم Quest for Fire إلا أنها استطاعت أن تثير في عقلي ذات الأفكار و التساؤلات عن الإنسان البدائي، و أن تثير في قلبي ذات التعاطف معه و مع مصاعب الحياة التي كان يواجهها تماما كما فعل الفيلم ! و هذا شيء دعاني إلى التعجب ، فمن الطبيعي أن يحدث شيء مثل هذا بعد مشاهدة فيلم مبني على رواية و لكنه من العجيب أن يحدث بعد لعب لعبة لا تملك أي عروض سينمائية أو قصة تذكر ! From Dust استطاعت فقط و من خلال أسلوب لعبها Gameplay أن تقول جزءاً كبيراً مما قاله الفيلم، و هذا دحض فكرة كانت بدأت تستقر في رأسي مفادها “أن مصممي الألعاب لايمكنهم قول أي شيء من خلال أسلوب اللعب Gameplay و أن عليهم في ألعابهم وضع مقاطع ذا طابع سينمائي و نصوص للقراءة للتعبير عن أفكارهم الفنية و إثارة عواطف لاعبيهم”، فقد كنت شبه موقن بأن أسلوب اللعب يتم وضعه في الألعاب للتسلية فقط لا غير. و أن لا وظيفة فنية له , و ذلك بعد أن عجزت عن إيجاد أي لعبة يتميز أسلوب لعبها بالفنية، و مناقشة قضايا تمس صميم الإنسانية كالقضايا الأخلاقية و علاقة الإنسان بالأرض و الوطن و هموم العشاق و غيرها من القضايا التي شغلت الشعراء و الأدباء و الرسامين و غيرهم من الفنانين.
لا أنكر أن هنالك ألعابا أثارت مثل هذه القضايا لكنها فعلت ذلك من خلال العروض السينمائية و المقاطع الموسيقية و تصميم بيئات اللعبة لا من خلال أسلوب اللعب , بل إن الفترات التي منحت فيها تلك الألعاب اللاعب دفة التحكم كانت تبدو دائما في هذه الألعاب بمثابة فترات استراحة من المتعة و الترفيه و مقاطع مستقطعة خارجة عن السياق بانتظار المقاطع الفنية التالية.
في From Dust كان الوضع مختلفا , كانت اللعبة في كل لحظة تمثل هذا الصراع المستميت بين الإنسان الأعزل الضعيف و الطبيعة القاسية، بل و فوق هذا جعلتني جزءاً من هذا الصراع .
في From Dust لم تحاول اللعبة أن تثير عاطفتي بشكل مباشر بمقاطع سينمائية و موسيقية، بل جعلتني أخوض التجربة مباشرة، و أعيشها دون أن أفكر في شيء , قالت لي هكذا بدون مقدمات “هذه القبيلة تريد أن تعيش في هذه الأرض المعرضة للكوارث فساعدهم” ، فانهمكت في مساعدتهم و مواجهة الأخطار معهم. و بعد أن انتهت مهمتي و أغلقت اللعبة، بدأت الأفكار تعصف بعقلي، و العواطف تضرب قلبي، بدأت أفكر في صعوبة حياة الإنسان البدائي، و في قسوة الطبيعة، و كيف كانت البشرية و أين أضحت ، و غير ذلك تماما كما حدث لي بعد مشاهدة فيلم Quest for Fire .
لعبة From Dust كانت هي اللعبة التي أبحث عنها لفترة طويلة، فهي تقول من خلال أسلوب اللعب كل ما تريد قوله، و لا تنتهج نهج غالبية الألعاب التي يملك مصمموها نزعة فنية بقول ما يودون قوله بوسائل تنتمي لعوالم فنية أخرى كالسينما و الموسيقى و الرسم .
بعد تجربتي للعبة From Dust أصبحت حقيقة أنظر إلى كل تلك السجلات حول سينمائية الألعاب و كيفية تطوير مستوى الحكايات فيها بعين أقل حفاوة و اهتمام، فهي سجلات يتبناها في الغالب مصممون يحاولون تطبيق مفاهيم السينما على الألعاب متجاهلين أهم عنصر في الألعاب، عنصر التفاعل الذي يجسده أسلوب اللعب ، و لا غرابة أن كبار المتحدثين في هذا الباب هم مصممون كانوا في بداية حياتهم ينتمون لعالم السينما مثل Ken Levine مخرج سلسلة Bioshock الذي درس الدراما في الجامعة و كتب سيناريو فيلمين قبل أن يدخل عالم الألعاب ، و Amy Hennig مخرجة سلسلتي Legacy of Kain و Uncharted التي درست الأدب الإنجليزي في الجامعة، و بدأت في دراسة السينما بعد ذلك قبل أن تدخل مصادفة إلى عالم الألعاب، و Hideo Kojima مخرج سلسلة Metal Gear كان يحلم أن يصبح مخرج أفلام قبل أن يغير حلمه بعد ذلك إلى أن يصبح مصمم ألعاب .
From Dust جعلتني أدرك أن الأولى على المصممين أن يجعلوا ميدان بحثهم في عالم تصميم الألعاب و ابتكارهم هو أسلوب اللعب و ليس القصة و السينمائية و غيرها، فأسلوب اللعب يمكنه أن يتكلم و يقول الكثير، لكنه يحتاج إلى من يستنطقه.
و للحديث بقية بمشيئة الله.
إيهاب قريبة