بمسكة يد، أو إيجاد الحل بتوجيه السيف، أو حتى حل الألغاز رفقة صديقٍ ضخم، مازالت ألعاب المخرج الياباني Fumito Ueda تخلق التأثير الكبير، ليس لجوانبها التقنية، ولكن بفلسفته المختلفة في التطوير، فنان الصناعة أو شاعر الصناعة، كيفما وصفناه، لا يُمكن أن ننكر أنه دون أن يوقع باسمه، ألعابه في حد ذاتها توقيع بارز وظاهر.
قبل أن يُعرف Fumito Ueda في مجال تطوير الألعاب كمخرجٍ بارع، بدأ رحلته كوليدٍ ياباني في مدينة تاتسونو اليابانية في مقاطعة هيوغو، مدينة تُحيط بها الجبال وتُجمّلها الطبيعة، بيئة انتهى بالعودة إليها كمصدر إلهام لألعابه.
دون أن يحظى بأي نوع من التميز كطفل، لم يكن أويدا مميزًا أيضًا خلال سنوات دراسته، فبعد سنوات التعلم الأولى، اختار أويدا دراسة الفن في جامعة أوساكَا للفنون، وليس هذا في الحقيقة ما مكنه من الالتحاق بمجال تطوير الألعاب والتأثير على عددٍ كبير من المطورين من بعده. المُطور الذي قارب الخمسين سنة تميز بأسلوبه “الشاعري” في تصميم أحداث ألعابه، وباعتماده المحدود للأساليب السينمائية في سرد القصص، وحتى إن لم يُخطط ليُصبح مصمم ألعاب، فقد أظهر اهتماما وحبا كبيرين للفن انتهى به بدراسة الفن، دون أن يكون بأي شكلٍ من الأشكال، الطالب المميز أو المثالي.
أويدا يقولها بنفسه، لا يرى أنه كان مميزًا بأي شكلٍ كان في الصغر، صحيح أنه علامة فارقة اليوم في مجال تطوير الألعاب، إلّا أنه على ذلك الوقت، كان فتًى يُحب الرسم، وقد قضى الكثير من الوقت يرسم القصص المصورة والمانغا اليابانية، وحتى إن حصل على بعض الاعتراف ببعض مهاراته كرسام، فإن أغلب ذكرياته بهذا الخصوص متعلقة بأصدقائه، فقد كانت الكثير من القصص التي يرسم متعلقة بهم، ورغم أنه فكر أكثر من مرة في أن يتحول من رسامٍ هاوٍ لمانغاكا (رسام القصص المصورة اليابانية) فقد واصل العمل على قصص هزلية بنسخٍ كاريكاتورية من أصدقائه، يتسلى بالضحك عليها معهم خارج المدرسة.
دون أن يكون اهتمامه بها لجوانبها الفنية والإبداعية، فقد أحب أويدا ألعاب الفيديو، جرب أجهزة الـFamicom والـMaster System وبعدها الـMegadrive، وكان لها دائمًا حيز كبير في حياته بالإضافة لباقي هواياته ومشاغله، رغم ذلك، استطاعت بعض الأعمال في مجال الترفيه، خاصة ألعاب الفيديو والأنمي، لفت انتباهه بفضل جوانبها الفنية، وبما أن مساره الدراسي أخذ هذا التوجه، فقد كان له مايكفيه من مصادر إلهام ليتفرد لاحقًا بأسلوبه المختلف في تصميم الألعاب، ألعاب الفيديو في بداياتها كانت بسيطة للغاية، والمحاولات الجدية لتقديم شيء مختلف كانت بارزة، وقد يكون الأمر أشبه اليوم بإصدار لعبة من أويدا نفسه، وسط زحام الألعاب التي تتشابه في الكثير من خصائصها، في حين تظل ألعابه دائمًا مميزة ومن السهل ربطها باسمه.
اليابان، هذه البقعة من الأرض تكاد تختلف في كل شيء فيها عن العالم، وقد كانت مهدًا لبعضٍ من أشهر مطوري الألعاب بمختلف تخصاصتهم، كثير منهم تفوق منذ الصغر وكان مُجدًا في دراسته، خاصة أن اليابان قادت مجال ألعاب الفيديو لسنوات، والأيدي الماهرة ليست ما ينقصها، لكن أويدا في الحقيقة لم يكن بين هؤلاء، لم يكن طالبا مُجدًا عندما التحق بجامعة أوساكا، وليُفلت من الانضباط والتركيز الذي يحتاجه فصل الرسم الواقعي، اختار أن يدرس الفن التجريدي، إيمانًا منه بأنه يتطلب مجهودًا أقل، ويُمكنه دائمًا العمل بشكلٍ متأخر على واجبٍ وتسليمه في موعده.
لا يأخذنا هذا بعيدًا عن كون اهتمام أويدا بالفن ودراسة الفن أمران مختلفان، فلطالما أعجب بالأعمال الفنية والإبداعية، ولهذا اختار دراسة الفن من الأساس، إلّا أنه لم يأخذ الأمر على محمل الجد، ولعلّه شعر في وقتٍ ما بأنه لا ينتسب لأي من المدارس الموجودة مسبقًا، واحتاج لأن يعمل بنفسه على شيء شخصي وخاص، وبرؤية ما وصل إليه اليوم من تأثير، فإنه كان على المسار الصحيح.
كأي شاب قارب على التخرج، تبدأ الحياة برميك بالمسؤوليات، وفي هذه الفترة من عمره، أحس أويدا أن ما يقوم به لن يُساعده على انهاء اللوحة التي ستُحقق له الإطمئنان الداخلي، فلك أن تُبلل الفرشاة وتمزج الألوان، لكن عليك أن تمتلك الفكرة وترسم شيئا، أويدا حينها كان يمتلك الفرشاة والأفكار ويُمكن أن نضيف عليهما المهارة، إلّا أنه لم يكن متأكدًا ممّا يريد حقًا القيام به، أوقاته كانت متفرقة بين ألعاب الفيديو، والتجوال على دراجته النارية وقضاء الوقت مع أصدقائه في انتاج أفلامٍ كهواية، أويدا سعيد أنه غير مساره، رغم أنه يحن للأيام التي كان يأخذ فيها دراجته النارية في رحلات طويلة بالساعات.
- الدراجة وجهاز الـAmiga
لا تُوجد علاقة بين الدراجة النارية والفن، إلّا أنها كانت نقطة وصل بين محطتين من عمر أويدا، بعد التخرج، فارق أويدا جزءًا من حياة الطالب المُشاكس، وباع دراجته ليشتري له جهاز Amiga، متخرجًا من جامعة أوساكا، في أرض المانغا والأنمي والألعاب، لم يرى أويدا أن له مستقبلًا كرسام، ليست المهارة ما كانت تنقصه، لكن عكس من يرغب حقًا في الحصول على دخلٍ من الفن، أويدا كان يستمتع بالفن من منظور مختلف، فلم يكن يهتم حقًا بالرسم خارج الدراسة ولا في أوقات الفراغ، الألعاب والأفلام كانت ما يشغل أوقاته، وبنظرة صادقة لمستقبله، حظوظ أن يبني هذا المستقبل على الفن كانت ضئيلة.
بحصوله على جهاز الـAmiga، توجه اهتمام أويدا لشيء مختلف، له علاقة بالفن والرسم دائمًا، إلّا أنه يعتمد على التقنية بشكلٍ أكبر، رسوم الحاسوب (CG) وتحديدًا التحريك (أنميشن). أُعجب أويدا بالمشاهد المتحركة أكثر من الرسوم الفنية الثابتة، واستطاع أن يُعلم نفسه ذاتيا بمساعدة دليلٍ مكتوب كيف يستخدم جهاز الـAmiga، ذلك لم يذهب سدى، فبحصوله على عملٍ جزئي في إحدى شركات أوساكا، كان هنالك جهاز Amiga جديدٍ بالكامل غير مستخدم، وكأنه لم يكن ينتظر سواه، رغم أن أغلب ما اشتغل عليه هي أعمال لتلفزيون أوساكا كتحريك شعارها وأعمال بسيطة كهذه، إلّا أنه استخدم الجهاز خفية للعمل على مشاريعه الخاصة.
- البداية الخجولة لمطور ألعاب
هذه الأعمال أرسلها لأستوديو التطوير WARP الذي قبل أن يُغلق أبوابه، كانت لعبة الرعب D2 لجهاز الـDreamcast أخر ألعابه، أعجب الأستوديو بأعمال أويدا وتم توظيفه من اللقاء الأول، الشاب الطموح لم يكن واثقًا جدًا بمهاراته، ولم يعتقد حينها بأن ما يقوم به هو عمل رائع من شخصٍ واحد، وبإصدار أول أفلام Jurassic Park، كان أويدا في نفس الوقت منبهرًا به، ومُحبطًا لأنه غير قادر على تقديم عمل مقارب لما فيه من مؤثرات، ذلك لم يمنعه من إثارة إعجاب مسؤولي أستوديو WARP الذي يقوده الموسيقار Kenji Eno بفضل الديمو الذي اشتغل عليه لسيارة تسير تحت المطر، الأستوديو تخصص في الأفلام التفاعلية، والمشاهد تحتاج لشخصٍ بخبرة في تحريك المُجسمات، وأويدا امتلك ذلك.
مازال حب أويدا لألعاب الفيديو لم يخبو، واهتمامه بجوانبها التطويرية لم يكتمل، فقد كان متعلقًا بالمشاهد والتحريك بشكلٍ أكبر، جهازه رغم ذلك مكنه من تجربة ألعاب كـOut of This World التي كما قد يعلم البعض، عُرفت بشكلٍ كبير بفضل توجهها الفني المظلم وجودة تحريك الشخصية. بدأ أويدا عمله مع أستوديو WARP بين ما يصل 16 فردًا، واستمر بمشاركتهم نفس بيئة العمل التي وصفها بالمرحة لمدة عام ونصف.
بيئة العمل اليابانية معروفة بصرامتها، وتطوير الألعاب حتى خارج اليابان ليس بالأمر السهل، وللشاب أويدا، تطوير لعبة لم يكن لعبة، تخصص في تحريك المشاهد، وتطلب عمله الكثير من الجهد، أويدا كان أحيانًا مسؤولا على العمل على ثلاثة مشاهد في يوم واحد، الأمر مستحيل اليوم باستثناء مشاريع أستوديوهات التطوير المستقلة الصغيرة، لذا يشعر أويدا بالارتياح في أي وقتٍ يشعر فيها بأن عمله صعب ما إن يتذكر أيامه مع أستوديو WARP.
كان عمله الرئيسي متعلقًا بالحركة، وكان واحدًا من 3 أشخاصٍ مسؤولين عن تحريك المشاهد في ألعاب D و Enemy Zero، العمل مقسم بين المطورين الثلاث، ومن يرغب بالعمل على مشهدٍ يُمكنه استلامه، المهم أن يكتمل العمل، أويدا يتذكر مقولة قد تصف بيئة عمله “لا تنم على كرسيك” والسبب أنه إن فعلت، لن تكون قادرًا على القيام بأي عمل، ولا على الحصول على الراحة بالشكل الصحيح، لذا من يرغب بالاستراحة، عليه أن يستلقي، بيئة العمل التي وصفها بالمرحة كانت مرحة بمن فيها، أمّا العمل، فصعب ومرهق كما هو الحال في اليابان كلها.
- ولادة مشروع مخرج ألعاب
أحيانًا، ما تضع فيه أغلب جهدك لا يكون سوى الطريق لما سيعطيك أفضل نتائجك، أويدا أحب العمل مع الأستوديو، إلّا أنه أثناء عمله على المشاهد في ألعابه، كان دائمًا يُفكر في طريقة أفضل للقيام بالأشياء، ويتخيل كيف يالإمكان تحسين مشهدٍ بالتغيير على النص، أويدا استلم كرسي الإخراج قبل أن يكون مخرجًا، ومن حسن الحظ أنه حتى وإن كان مطورا صغيرًا يقتصر عمله على بعض المشاهد فقط، فقد امتلك الطموح الكافي لينتقل بحلمه لأروقة سوني، وما عاشه داخل الأستوديو كان بلا شك رسمته التي بدأت تتشكل ولم يحتج سوى للوقت ليُكملها.
الطريق نحو سوني وإخراج الألعاب…