اليابان

عُرِفَ عن اليابان كونها دولة مغلقة لا ترحب بالغرباء، و على الرغم من جميع الأنظمة العالمية التي وُضِعَت لتعميم التبادل التجاري و الثقافي، إلا أن اليابان تمكنت من مواكبة الأنظمة الحديثة مع الحفاظ على تقاليدها و بقيت تجارتها حصينة و منيعة من سيطرة المستثمر الأجنبي مقارنة بالدول الأخرى، و حتى يومنا هذا حافظت جميع شركات ألعاب الفيديو على استقلاليتها، فكيف حصل ذلك؟ الأمر يقودنا في البداية إلى النظام الياباني القديم في التجارة و الذي عُرِف باسم Zaibatsu. هذا النظام ببساطة يُشير إلى سيطرة و احتكار عامودي لمجموعة من العائلات على التجارة في اليابان، فهذه التجارة من اختصاص تلك العائلة و تلك التجارة من اختصاص عائلة أخرى و هكذا. السيطرة العامودية تعني سيطرة العائلة على كافة مراحل العملية التجارية من المواد الخام و التصنيع حتى الإنتاج و البيع. بالطبع، هذه العائلات أصبحت تملك نفوذًا هائلًا و ثروة ضخمة للغاية و علاقة وطيدة مع الإمبراطورية اليابانية بذاتها.

هذا النظام الاحتكاري كان القلب النابض للتجارة عندما بدأت اليابان في الازدهار في حُقبة الميجي، إلا أنّ خسارة اليابان في الحرب العالمية الثانية غيّرت ذلك، و فرضت قوات الحلفاء على اليابان التخلي عن هذا النظام في العام 1945 بقواعد صارمة. رغم التخلي الإجباري لليابان عن نظام Zaibatsu، إلا أن النظام لم يمت تمامًا، بل إن الأمر كان أكثر تعقيدًا من ذلك. فرضت قوات التحالف عبر مركز قيادتها (GHQ) مصادرة ثروات و أملاك و حصص أفراد كبار العائلات اليابانية بهدف تفكيك شركاتهم الكبيرة، و أرادت تعويضهم بسندات غير مرنة لا يحق لهم حتى استعارتها أو التصرف بها، إذ أمر الجنرال “دوغلاس ماك آرثر” بتجميد حصص و ثروات أغنى 10 عائلات يابانية، إلا أن اللجان اليابانية التي كُلِّفت بتنفيذ هذه التعليمات أرادت حماية الاقتصاد الياباني و حماية العائلات.

مصادرة ممتلكات الزايباتسو
مصادرة ممتلكات الزايباتسو في العام 1946 من قوات التحالف

حصل موظفو الشركات التابعة لعائلات الزايباتسو على الأولوية في حق شراء حصص العائلات التي طُرِحَت للبيع، و يُشير مقال من جامعة Dartmouth أنّ اللجان اليابانية في حقيقة الأمر قامت بإقناع الأمريكيين بتعويض عائلات الزايباتسو بالمال عوضًا عن السندات، و هذا ما حصل بالفعل بعد عام 1952، إذ تمكنت بعض العائلات من إعادة شراء شركاتها من الموظفين الذين قاموا بشراء تلك الحصص، كما تمكنت شركات فرعية عديدة تابعة للزايباتسو من الإفلات من رقابة النظام و أعادت التجمع بعد 1952. النظام بصورة كبيرة قد انتهى و لم تعد العائلات الكبيرة تسيطر على الاقتصاد الياباني، و برزت فئة الطبقة الوسطى إلى الواجهة، و ذلك رغم أن العديد من العائلات خرجت من الأزمة مع الحفاظ أو استعادة جزء ضخم من ممتلكاتها. مع الثورة الصناعية في اليابان و المعجزة الاقتصادية في الستينات، أتت الحاجة إلى نظامٍ آخر يحمي المصالح المشتركة للشركات اليابانية و يقلل خطر المنافسة و السيطرة من الشركات الأجنبية في ظل النظام الرأسمالي، و هنا برز نظامٌ جديد تحت مصطلح “كيريتسو” (Keiretsu).

نظام الكيريتسو يُشير إلى تحالف غير رسمي بين مجموعةٍ من الشركات اليابانية ترتبط مع بعضها البعض بمصالح مشتركة عن طريق شراء حصص صغيرة ببعضها البعض. نظام الكيرتسو سيطر على الاقتصاد الياباني في النصف الثاني من القرن العشرين. هذا النظام يُشير إلى أن هذه الشركات ستراعي مصالح بعضها البعض لأن كلًا منها يملك حصة في الآخر، كما سيجعل مهمة الاستحواذ الإجباري (hostile takeover) أصعب بكثير على أي شركة أجنبية، المحلل “سيركان توتو” من شركة Kantan Games الاستشارية يشرح الأمر في حوارٍ مع hitpoints و يقول بأن محاولة الاستحواذ الإجباري ستكون محاولة انتحارية، لأن جميع الشركاء سيقومون ببيع حصصهم على الفور (بأسعار زهيدة على الأرجح، مما سيتسبب بانهيار قيمة الشركة المالية)، بل و يذهب المحلل أبعد من ذلك و يقول:

لا شيء مستحيل في هذا الزمن، و لكن استحواذ مايكروسوفت على شركة نشر ألعاب يابانية سيكون خبرًا أضخم من صفقة آكتفيجن. حتى الآن لم تنجح أي شركة غربية في الاستحواذ على شركة ألعاب يابانية، و أنا أؤكد بأن المحاولات كانت موجودة، من الغرب و من دولٍ أخرى في آسيا على حدٍ سواء.

في اليابان، هناك العديد من تحالفات الكيريتسو، إلا أن التحالفات الضخمة التي تحكم الاقتصاد و المجتمع الياباني كاملًا هي ثمانية تحالفات كيريتسو أساسية ضخمة مدعومة من طرف البنوك، و تضم هذه التحالفات شركات تدخل في كافة جوانب الحياة من الأدوية و الغذاء مرورًا بالتكنولوجيا و الترفيه وصولًا إلى الإنشاء و مختلف الصناعات. تجدر الإشارة إلى أن هذا النظام في الألفية الجديدة أصبح أضعف بكثير مما كان عليه قبلها، و لم تعد الشركات الحليفة فيه بنفس المستوى من المركزية و الاندماج. على أية حال هذا النظام ساهم في حماية شركات المجموعة، و عند حاجة إحداها إلى المال فإنها كانت تحصل عليه بالقروض و التسهيلات المالية من البنك المسؤول عن دعم مجموعة الكيريتسو. فيما يتعلق بالاستثمارات الأجنبية إلى الداخل، فإن التقارير تؤكد بأن اليابان تأتي في المركز الأخير على مستوى 196 دولة في العالم، و حتى أنها تأتي خلف كوريا الشمالية من ناحية حجم الاستثمارات الأجنبية المُباشِرَة إلى الداخل، هذا لوحده يعكس مدى قوة الشركات اليابانية في الحفاظ على هويتها عبر السنوات، و صد محاولات الاستحواذ و الاستثمار الخارجي.

بالتأكيد ينطبق هذا على شركات ألعاب الفيديو أيضًا. لقد حصلت عمليات اندماج لشركات ألعاب الفيديو اليابانية في الماضي، إلا أنها كانت مع شركاء محليين و هي اندماج سكوير سوفت و إينكس، سيغا و سامي، بانداي و نامكو، بالإضافة إلى كوي و تيكمو. هناك شركات أجنبية تملك استثمارات في شركات الألعاب اليابانية و من ضمنها Tencent، إلا أنها لم تصل إلى الاستحواذ الكامل مطلقًا حتى الآن، و لا حتى على استوديو صغير واحد، فضلًا عن شركة نشر كبيرة. و تعمل الشركات التي تنتمي إلى ذات الكريتسو على رعاية مصالح بعضها البعض، و لا تدخل في مُنافسة مُباشرة.

فكرة التحالفات التجارية هذه هي شائعة جدًا لدى الشركات اليابانية، و من ضمنها استثمار شركة سوني في Kadokawa Games (التي تملك فريق التطوير From Software) الذي ضمن لها امتلاك 1.9% من قيمة كادوكاوا:

كادوكاوا سوني

شركة CyberAgent هي أيضًا جزء من هذا التحالف، و هي الشركة التي تملك CyGames. كادوكاوا قالت أن هذه الصفقة ستسمح لها باستغلال شبكة سوني العالمية للتوسع في قطاعي الأنميشن و كذلك ألعاب الفيديو، و لعلّ مشروع لعبة Relayer هو نتاج لهذا التحالف. و لكن إن نظرنا إلى هذا التحالف على ضوء العُرف التجاري في اليابان، فإن هذا يقودنا إلى التساؤل فيما إن كان الهدف الحقيقي لهذه الشراكة هو صد أي محاولة استحواذ خارجية على فريق التطوير From Software صاحب الشعبية الجارفة، أو حتى الاستحواذ على CYGames التي تحقق نجاحات عملاقة على الهواتف الذكية بألعاب مثل Granblue Fantasy و ShadowVerse.

ننتندو تملك أيضًا 5% من حصص CYGames، و بالحديث عن ننتندو، فإن الشركة قد عقدت تحالفًا في السابق مع شركة DeNa المختصة في ألعاب الهواتف الذكية بنفس الصورة، إذ قامت ننتندو بالاستحواذ على 10% من أسهم DeNa فيما استحوذت DeNa على 1.5% من أسهم ننتندو و هي تاسع أكبر مستثمر في أسهم ننتندو، هذه الصفقة التي نجم عنها مشاريع للهواتف الذكية مثل Super Mario Run. كما تملك ننتندو حصة غير معلنة في فريق التطوير GameFreak المسؤول عن تطوير سلسلة ألعاب بوكيمون و حصة في شركة Creatures Inc، و قامت الشركات الثلاث معًا بتأسيس شركة البوكيمون لإدارة علامة البوكيمون التجارية، فيما يبدو كتحالفٍ منيع يصدّ أي محاولة استحواذ على هذه العلامة التجارية المرموقة التي يمتلكها ثلاثتهم دون سيطرة تامة من إحداهم على البقية.

لعلنا نذكر أيضًا استثمار سوني في شركة سكوير سوفت عندما فشل فيلم Final Fantasy The Spirits Within بقيمة 18.6 % من أسهم الشركة، مما جعلها ثاني أكبر مستثمر في الشركة آنذاك، قبل أن تندمج سكوير سوفت مع إينكس لتأسيس “سكوير إينكس”. سوني قامت ببيع حصتها في سكوير إينكس لاحقًا في 2014 لشركة SMBC Nikko Securities, Inc، و بينما رأى البعض أن هذا كان تخليًا عن سوني لشريك قوي و أن البلايستيشن ربما لم يعد بحاجة إلى سكوير إينكس، إلا أن الحقيقة كانت على النقيض من ذلك تمامًا. سوني كانت تواجه تحديات مالية عديدة آنذاك، و سكوير إينكس رأت في عملية البيع نوعًا من سداد المعروف و مساعدة لسوني. هذا ما أكده شينجي هاشيموتو في كوميك-كون تايلاند:

كان هناك نقاش بين رؤساء الشركتين و النتيجة معروفة، لم يكن هناك أي جدال أو خلاف. بما أن سوني ساعدتنا في السابق، حان الوقت الذي نقدم نحن فيه المساعدة لسوني.

الشركات اليابانية تهتم ببعضها البعض بطريقة مختلفة نسبيًا عما هو شائع في أماكن أخرى من العالم، و في الحقيقة، هناك عدد ضخم جدًا من الشركات اليابانية تأسس منذ مئات السنين. ننتندو تأسست عام 1889.الشركات التي ترتبط ببعضها البعض بعلاقة عامودية ضمن سلسلة التوريد تحاول الاستثمار ببعضها البعض و مراعاة مصالحها، و بذلك فإن علاقتها مختلفة بعض الشيء عن المنافسة الشرسة بينها في العالم الغربي و التي هي ببساطة علاقة البائع بالمشتري.

على أية حال، السوق يتغير و البيئة تتغير و العلاقات تتغير و يبقى السؤال فيما إن كانت شركات مثل مايكروسوفت الأمريكية و Tencent الصينية ستتمكن من الاستحواذ على شركات ألعاب يابانية أم أن الأخيرة ستنجح في الحفاظ على استقلاليتها في ظل حركات الدمج الضخمة التي بدأت تُسيطر على صناعة ألعاب الفيديو. هناك أيضًا احتمال أن تقوم شركة مثل مايكروسوفت بالاستحواذ على نسبة من حصة ناشر ياباني و عقد تحالف دون الاستحواذ الكامل على الشركة، و هناك أمثلة عديدة على حالات مشابهة للشركات اليابانية مثل استحواذ Ford على حصة كبيرة من أسهم Mazda، و لكن عندما قررت فورد أن تبيع 20% من أسهمها في مازدا، قامت مازدا بشراء 6.9% من أسهمها، كما قامت 20 شركة من شركاء مازدا و الذين لم يُفصح عن هويتهم بشراء ال13% المتبقية، و رغم أن العلاقة بقيت قوية بين الطرفين إلا أن مازدا استعادت سيطرتها و استقلاليتها جزئيًا بعد ذلك.

السوق يتغير على الدوام، السنوات القادمة ستكون مثيرة جدًا لصناعة ألعاب الفيديو بعد أن أدركت شركات ضخمة عديدة حول العالم الأهمية القصوى و البالغة لتقديم المحتوى، و يبقى السؤال إن كان الشكل القادم للسوق سيستوعب وجود شركات متوسطة الحجم مثل شركات نشر الألعاب اليابانية، أم أن الأسماك الكبيرة… ستستمر في ابتلاع الأسماك الصغيرة.

شارك هذا المقال