لا تحصلُ دائمًا على فرصة لتصحيح أخطاءِ الماضي، لم تكن To the Moon رحلة فحسب عبر أحلام “جوني” و ذكرياته، بل رحلة أيضًا لنا لنعاود زيارة لعبة ربما كان موقفنا تجاهها قاسيًا أكثر من اللازم في الماضي، To the Moon، إلى القمر باتت متوفرة على متجر Switch الرقمي، و ها نحنُ نضع أيدينا عليها من جديد، لنوجه النصيحة هذه المرة إلى أيّ لاعبٍ يُحبّ التجارب القصصية: هذه لعبة واجبة الاقتناء.
إنّ عملية المراجعة للعبة كهذه كانت و ما زالت أمرًا صعبًا على النُقّاد و وسائل الإعلام، فالأمر يحمل في البداية جدلًا حول مفهوم لعبة الفيديو، فاللعبة من زاوية اللعب لا تُقدم الكثير، و هذا هو المنظور الذي نظرنا فيه إلى اللعبة في الماضي، عندما قام “كان غاو” بتطويرها و إطلاقها على برنامج الآربيجي ميكر لتحظى بشعبية كبيرة بين فئة مُحددة من اللاعبين (هذه النسخة من اللعبة على مُحرك Unity)، أما المنظور الذي ننظر فيه اليوم إلى اللعبة فهو مختلف، و يعكس اختلاف طريقة تفكيرنا على مدار هذه السنوات: إن أرادَ المطوّر أن يستعمل ألعاب الفيديو كوسيط لرواية قصة، كوسيط لخلق تجربة يتفاعل فيها اللاعب مع أحداثٍ قصصية فحسب، فهذا قراره، و علينا أن ننظر إلى اللعبة و نُقيّمها بما تقدمه، و ليس بما لا تحاول اللعبة تقديمه.
الأمرُ الآخر المثير للجدل هو كيفية تقييم مستوى السرد القصصي في اللعبة، و في الحقيقةِ فإن هذا جدلٌ تاريخيٌ قديم، فالكتّاب و الأدباء الكبار كثيرًا ما سلّطوا انتقاداتهم تجاه الأعمال التي لا تُقدّم أرفع مستوً مُمكنٍ من البلاغة اللغويّة، إلا أننا من جديد لا نعتقدُ أن مستوى اللغة و مستوى الكتابة هو العامل الوحيد لتقييم قصة بالشكل الصحيح، و ربما هذا ما يغفل عنه العديدُ من الأدباء، فإنّ هناك موهبةً ربّانيةً لدى بعض المؤلفين و الرواة في خلق الرتم القصصي الفريد، أو بثّ العاطفة في قلوبِ الناس، أو في طريقة صنع الشخصيات الجذابة و كيفية تطويرها، دون أن تكون اللغة نقطةَ قوّةٍ بالضرورة، و هذا ينطبقُ على لعبتنا To the Moon، فهي ليست لعبةً أدبيّةً إن جاز التعبير، إلا أنها قصةٌ من طرازٍ عالٍ.
تجري أحداث اللعبة بمنظور الخبيرين “نيل واطس” و “إيفا روزالين” من شركة “سيغموند” التي تملك جهازًا يُمكن له الغوص في ذكريات الناس، يقوم “جوني” العجوز بطلب خدمات هذه الشركة و هو على فراش الموت من أجل تحقيق أمنيته الأخيرة عن طريق الغوص في عقله لخلق ذكرياتٍ و أحلامٍ جديدة يراها في مُخيلته قبل أن يُفارق الحياة الدنيا، “جوني” لديه رغبة غريبة للغاية و غامضة فهو يرغب في الذهاب إلى القمر، و لكن لماذا؟ حتى جوني لا يعرف الإجابة عن هذا السؤال، و هكذا تبدأ رحلة نيل و إيفا في أعماق ذكريات جون من مرحلة الشيخوخة إلى كافة مراحل حياته السنيّة لعلهم يعثرون على الدافع الحقيقي لجوني و رغبته الغامضة في الرحيل إلى القمر.
يبرع الكندي “كان غاو” في سرد قصته بتركيزٍ شديد، ليس هناك بناءٌ لعالم اللعبة، ليس هناك الكثير من التفاصيل للشخصيات الجانبية، فالقصة تُركز بالكامل على ذكريات “جون” و استكشاف حياته، و العودة بالزمن عبرَ هذه الذكريات إلى الوراء خطوة بخطوة من أجل الوصول إلى حقيقة رغباته الداخلية التي لا يعرف حتى هو مصدرها! في كل جزئية ذكريات جديدة يكتشف اللاعب، و كل من “نيل واطس” و إيفا روزالين” تفاصيل جديدة صغيرة حول حياة جون و زوجته الحبيبة و المتوفاة “ريفر”، و تبرع اللعبة ببناء اللحظات العاطفية بين جون و ريفر، خاصة مع موسيقى البيانو العذبة التي تخلق أحاسيسًا رائعة ستعبث بأوتارِ قلوب اللاعبين.
تبرعُ اللعبةُ أيضًا في خلق التضاد بين شخصياتها، و نحنُ نرى أن هذا التضاد ساهم كثيرًا في خلق مُحادثات ديناميكية مُسليّة بين الشخصيات، فالدكتور “نيل واطس” على سبيل المثال هو شخصٌ حساس قد يبدو فظّا أو قليل المجاملة بعضَ الشيء، كما أنّه يتحلى بشيءٍ من روح الدعابة، إلا أن شريكته “إيفا روزالين” هي النقيض من ذلك تمامًا، فهي هادئة و متزنة و رزينة، هذا ينطبقُ أيضًا على جون بسيط الطباع، و زوجته العميقة و غريبة الأطوار ريفر، إنّ الكاتب ينجح في شدّ الانتباه إلى شخصيّاته ببراعة على الدوام، حتى يصلَ إلى اللحظات الأخيرة ليُقدم الكشف الأخير و الأساسي.
محبو الألعاب و القصص الشاعرية التي تتمحور حول الحب و الندم و الرغبة و الأحلام، سيعثرون على تجربةٍ فريدةٍ في ترابطها و طريقتها البسيطة و المُباشرة و الفعّالة في سرد القصة بأسلوبٍ عفويٍ خالٍ من الجمود، و لعلّ حبة الكرز على الكعكة كانت الموسيقى الرائعة للغاية، بالذات ألحان البيانو الجميلة مثل مقطوعة “إلى ريفر” المليئة بالعذوبة، و التي ستجعل اللاعبين يحلقون إلى القمر بدورهم! و لكن هل هذا يعني أن التجربة كانت بلا عيوب؟ حسنًا… لا. على سبيل المثال، أزعجنا قليلًا أن اللعبة لا تمتلك زرًّا للركض أو المشي أسرع، كما أنّنا تمنينا لو قامت اللعبة بتقديم المزيد من المعلومات حول الشخصيات الجانبية، أو حتى لو قدمت قيمة عمرية أكبر، فهي تجربة ستنتهي منها خلال بضعة ساعات، و لن تحصل على سببٍ إضافيٍ لتعودَ لها مرّة أخرى. بالإضافة إلى ذلك، لا وجود لأي نوعٍ من التمثيل الصوتي.
To the Moon هي مثالٌ حيٌ آخر على أن ألعاب الفيديو لا يجب أن تحتوي بالضرورة على تحدٍ و مُنافسة بين طرفين، على عناصر الحركة و الأكشن، بل يُمكن لها أن تُستخدَم كوسيطٍ تفاعليّ لرواية القصة، و يُمكن لها أن تخلق الارتباط العاطفي مع الشخصيّات حتى بطريقة تقديمٍ بسيطة، لأن العاطفة الموجودة في اللعبة هي عاطفةٌ صادقة و قوية و كفيلة بخلق التأثير المنشود، To the Moon تأخذ اللاعب عبرَ رحلة أخاذة في ذكريات شخصٍ يحتضر لتحقيق رغبته الأخيرة، فهل أنت مُستعدٌ للغوص في الأحلام؟
تمّت مراجعة اللعبة على الننتندو سويتش بنسخة قام بتوفيرها الناشر قبل صدور اللعبة في الأسواق.