Punished Noctis
A Silver Bullet
لا يخفى على أحدٍ شغف اليابان بفكرة القدَّر. فكرة تكررت في الميثولوجيا وأستعملت حتى الثمالة في قصص الفرسان والأميرات ثم ندرت، إلا في اليابان. لليابان شغف بالقدَّر، بالخيوط الخفية التي توجهنا في حياتنا، أو السلاسل التي تقيدنا وتمنعنا من أن نصبح ما نريد، منظورك يحدد.
لألعاب الـ RPG المصنوعة في اليابان إهتمامٌ خاص بالفكرة، فيقدم كثير منها رحلة البطل في طريقه لكسر تلك السلاسل، لتغيير المصير الذي كُتِب له. تُخبرنا تلك الألعاب أن بإمكاننا تغيير الطريق الذي ُرسم لنا، بأن أقدارنا ليست محددة مسبقاً، وبأن أن بذلنا مايكفي من جهد، يمكننا أن نصبح أي شيء نريده.
ربما لهذا، كانت لقصة آخر ملوك لوسيس، نوكتيس لوسيس كاليوم، مذاقاً مختلفاً.
بعالم إيوس، النبوؤات ليست بأساطير، والنبوؤات حكت بقدوم ملك النور، ملك من سلسلة لوسيس، يظهر بأدلك الساعات، ليوقظ الكريستالة، ويشفي النجوم من دائها، مضحياً بنفسه.
نوكتيس لوسيس كاليوم، لم يكن قط أسعد الأطفال حظاً. نعم، هو أمير، لكنه ولد يتيم الأم، في أيام حرب، منعته من أن يحظى بأي درجة مقبولة من الحب الأسري، فوالده مشغول دائماً، وعشاءه أغلب الوقت وحيد. حتى أصدقاءه، وإن أحبهم، كانوا حاشيته. جلاديولوس، درعه ومدربه للقتال، وإيجنيس، الصبي الذي رُبي ليصبح وزيره.
تحكي Nier Automata قائلة، بأن في واحدة من الليالي القليلة التي تعشى فيها الملك ريجيس برفقة إبنه، سأل الملك نوكتيس، ما الشيء الذي يريده أكثر من أي شيء، متمنياً أن تكون إجابة إبنه أنه لا يريد إلا أن يقضي المزيد من الوقت معه. لكن نوكتيس، محاولاً إثارة إعجاب والده، أشار إلى سيف عتيق معلق على الحائط، سيف يعرف بإسم الـ "Engine Blade"، ويعد علامة، بأن الأمير جاهزٌ للحُكم. ضحك ريجيس قائلاً، "يوماً ما".
إبتسم نوكتيس إبتسامة خافتة، كل ما أراده حقاً كان أن يحكي له أباه قصة ما قبل النوم.
تخبرنا اللعبة، أن السيف كانت هدية ريجيس لإبنه بعيد ميلاده السادس عشر.
حياة نوكتيس إختلفت جذرياً، حين هوجم من قِبل شياطين نيفيلهايم، في رحلة له خارج المدينة العاصمة إنسومنيا. لعلاج أبنه، أخذ ريجيس نوكتيس في رحلة لتينيبراي، مملكة صديقة حكمتها أسرة نوكس فلوريت، أسرة عُرفت بوراثتها لدمِ الأوريكل، مقدرتهم على التحدث للآلهة الستة، وإنتظارهم لملك النور. هناك، أخبرت الملكة سيلفا ريجيس، بأن نوكتيس هو ملك النور المنتظر.
كسر ذلك قلب ريجيس، فللخبر معانٍ كثيرة. أولها أن الظلام قادم، وآخرها أن إبنه سيموت ليوقفه. نوكتيس لن يتمكن أبداً من عيش حياة طبيعية، ذاك كان القدَّر الذي رُسم له. رغم الحزن والأسى الذي عاشه الأب والإبن بتلك الأيام، إلا أن فتاة صغيرة تمكنت بكلماتها من طمئنة قلب ريجيس، وتسهيل فكرة مصير إبنه عليه. تلك الفتاة كانت الأميرة لونافريا، بنت سيلفا التي صادقت نوكتيس ووعدته بالوقوف بجانبه حين يأتي الوقت لتحقيق مصيره. أحب نوكتيس الفتاة، لكنه لم يتمكن ابداً كطفل من حفظه أو نطقه بشكل صحيح.
لهذا بدأ في مناداتها "لونا"، وإستمر.
لم تدم تلك الأيام طويلاً، فهاجمت نيفيلهايم تينيبراي، قاتلةً سيلفا، ودافعةً ريجيس ونوكتيس وحاشيتهم للهروب. ضعفت طرق التواصل بعدها بين لونا ونوكتيس، ولو إستمرت (عن طريق كلب سحري في ذلك). وبدأ نوكتيس حياته الجديدة، كطفل يعرف أنه سيموت أبكر مما ينبغي له.
كمراهق، بدأ نوكتيس. ليس في رفض مصيره ومواجهته، بل في الهروب منه وتناسيه. قرر نوكتيس أنه سيبدأ بالعيش بمفرده في شقة عادية، وبدأ في تكوين صداقات خارج الحاشية، لعل أولها وأهمها صداقته مع الفتى الأخرق المحبب برومبتو. بدأ نوكتيس المحاولة في عيش حياة طبيعية، ونجح إلى حد بعيد. نوكتيس يذهب للمدرسة، يكون أصدقاء، يلعب بصالات الأركيد، ينسى المصير المظلم الذي كُتب له، شيئاً فشيئاً.
حتى رأى أباه، للمرة الأولى منذ فترة بعيدة، على شاشة التلفاز. كان الملك ريجيس يعرج مستعملاً عكازاً، رغم صغر سنه. مذكراً نوكتيس، ليس فقط بالحرب التي تدمر والده، أو القوى الملعونة لدم لوسيس، التي تستنذف أعمارهم، بل بمصيره، وبأنه مهما حاول أن ينسى، لن يتمكن ابداً من أن يعيش حياة طبيعية.
بكى نوكتيس يومها، ثم سرعان ماعاد إلى حياته. إلى الكذبة التي خلقها لنفسه.
يرسل الملك ريجيس نوكتيس وأصدقاءه خارج العاصمة، في رحلة إلى زفافه إلى لونافريا في ألتيشيا، المدينة العائمة على الماء. نوكتيس، مستغرقاً في الحياة الطبيعية التي رسمها لنفسه، لا يرى الأمر إلا مزيجاً من مراسم ديبلوماسية، وفرصة خلابة ليجتمع بالفتاة التي طالما احبها. لكن ريجيس يعرف أن الأمر أكبر من هذا.
ريجيس يعرف أن معاهدة السلام ليست إلا كذبة، ويعرف أن نيفيلهايم ستهاجم، ويعرف أن هذه في الغالب المرة الأخيرة التي سيرى إبنه فيها. ريجيس يريد أن يعطي نوكتيس سنيناً إضافية ليعيشها، يريد أن يمنحه ولونا بعضاً من السعادة التي افتقدتها حياتهما، حتى وإن كانت لأيام معدودة.
ريجيس، يريد أيضاً، في هذه اللحظة وإن كانت هذه اللحظة فقط، أن يكون أباً لنوكتيس، عوضاً عن ملكٍ للوسيس.
"خذ حذرك، وإعلم أن حين تبدأ أمراً، عليك أن تنهيه. إعتني بنفسك فالطريق طويل، وإعلم أن حيثما ذهبت، دم لوسيس يذهب معك. إمشي فخوراً، بُني."
كلمات لم يبدي لها نوكتيس لحظتها إلا عدم الإكتراث، عدم إكتراث عرفنا لاحقاً أنه ما كان إلا كذبة. كذبة لا بُد أن نوكتيس ندم عليها كثيراً، فتلك كانت لحظته الأخيرة مع والده.
لعل سقوط إنسومنيا، وموت ريجيس، كانا الصفعة الأولى لنوكتيس. صفعة أوقظته من حلم الحياة الطبيعية الذي عاشه سنوات، وحلم الزواج بلونا الذي عاشه لأيام. نوكتيس الآن وحيد، بلا مملكة وبلا عائلة، هو الآن آخر سلالة لوسيس، وليس لديه إلا أصدقاءه الثلاثة، في رحلته لإكتساب قوته، الوصول للونا، وتحقيق مصيره.
رحلة يسافر فيها حول العالم زائراً مقابر الملوك الثلاثة عشر، وموقظاً ما تبقى من الآلهة الستة، في محاولة لتجميع كل ما يمكن عليه من قوة لمواجهة نيفيلهايم. رحلة يعرف أن نهايتها الموت عاجلاً كان آم آجل، وإن إنتصر. رحلة عليها أن تكون مظلمة، ثقيلة على القلب. رحلة كان عليها في الغالب أن تنتهي بالجنون، قبل الموت كما يحكي لنا الفيلم القصير Omen.. لكنها لم تكن.
وهذا لأن نوكتيس، كان محظوظاً بالبشر الرائعين الذين قابلهم في حياته. بالصداقات المتينة الذي كونها، بالأخوة الذين لم يشاركوه الأم ولا الأب، لكن شاركوه كل شيء آخر. إيجنيس، وجلاديولوس، وبرومبتو، كانوا حول نوكتيس حين كان ينبغي عليه أن يكون وحيداً، وحولوا رحلته المشؤمة تجاه الموت، إلى سنة عبرت بشكل غريب، بمكان بين الحزن، والبركة، كما تصدح فلورينس في رائعتها "Too Much is Never Enough".
ربما لم تكن تلك الحياة الطبيعية التي بناها نوكتيس لنفسه كذبة في نهاية المطاف، ربما هي كانت ما انقذه.
ثم فشل نوكتيس.
الفشل، هي خطوة تقليدية في رحلة البطل. بمنتصف القصة، يسقط البطل أشد سقطاته، قبل أن يصعد مجدداً. رغم ذلك، لا يمكنني التفكير بلحظات فشل كثيرة، بقوة فشل نوكتيس في معركة ألتيشيا.
لونا وثقت بنوكتيس وبدأت مراسم إستدعاء ليفايثين، إلهة الماء. على نوكتيس أن يواجهها ويثبت لها جدارته بقوتها. بعدها، سيتمكن أخيراً من مقابلة لونا، للمرة الأولى منذ مايزيد عن عشر سنوات.
فشل نوكتيس فشلاً ذريعاً في مواجهة ليفايثين، حيث تضاءلت قوته بشدة أمامها وبدأت برميه يمنة ويسرة بدون أي فرصة له في المواجهة، معطياً آردين الفرصة للوصول إلى لونا، وطعنها طعنة قاتلة أمام عينيه. فقط لتضحى لونا بما تبقى من حياتها لمنحه القوة لمواجهة ليفايثين مؤقتاً، فقط ليخسر مرة أخرى.
يستيقظ نوكتيس بعدها بأيام، يستيقظ ليرى مدينة مدمرة، ليرى الفتاة التي أحبها منذ صغره ميتة، ليرى أحد أعز أصدقاءه فاقداً البصر، رافضاً أن يخبره ماحدث بالضبط، ملمحاً أنه خسره في محاولته لإنقاذ نوكتيس بعد هزيمة ليفايثين.
نوكتيس مُدمر. خسر كل شيء، خذل لونا، خذل الجميع، لكنه يستجمع ما تبقى لديه من قوة ويستمر في رحلته تجاه نيفيلهايم. هذه كانت اللحظة المناسبة للهروب، لرفض هذا القدَّر الذي منعه من أن يعيش الحياة التي يستحقها، لكنه لم يهرب. لن يخذل والده، لن يخذل لونا، لن يخذل أصدقاءه، ليس بعد كل ما حدث.
حين يصل نوكتيس إلى الكريستالة أخيراً، متوقعاً أن تمنحه قوتها ليهزم آردين مضحياً بنفسه، يفاجأ بحاجز أخير، يفاجأ بأنه لن يموت الآن.
تسحب الكريستالة نوكتيس إلى داخلها، ليقابل هناك الفارس باهاموت. يشرح له باهاموت، بأن عليه أن ينام عشر سنوات داخل الكريستالة ليسيطر على قوتها. عشر سنوات لن يعرف فيها ماذا قد يفعل آردين، ماذا يحدث للعالم، ماذا حدث لأصدقاءه. عشر سنوات سيستيقظ بعدها جاهزاً لمعركة أخيرة مع الملعون، يهزمه فيها ويطهر النجوم من دائها، ثم سيموت بعدها.
نوكتيس لا يسأل، لا يجادل، لا يخبر باهاموت بإن لا بد أن هناك طريقة أخرى، كما تتوقع منه وتريده أن يقول. نوكتيس يبدو خائفاً، حزيناً، متحسراً على شبابه، على حياته التي لم يكن له فيها تحكم، إلا الأصدقاء الذين كانوا أفضل مافيها. لكنه لا يجادل. آخر ملوك لوسيس، يقبل مصيره.
إنتهت المعركة. نوكتيس يودع أصدقاءه، مخبرهم ما أخبره به والده في بداية الرحلة، أن يمشوا بفخر.
يمشي الملك تجاه عرشه.. "لقد عدت. لقد مشيت فخوراً. ورغم أني استغرقت أكثر مما ينبغي، أنا جاهزٌ الآن".
"أحبكم جميعاً، لونا، أصدقائي، أبي."
يستدعي الملك سلفه من الملوك، على كل منهم أن يطعنه، مانحاً إياه قوته لإزالة اللعنة. على نوكتيس أن يجلس على العرش، أن يتحمل كل طعنة، عالماً أن الطعنة التي ستقتله، عليها أن تكون طعنة والده، الملك ريجيس.
"ثق بي، أبي. يمكنني القيام بهذا."
يموت الملك، جالساً على عرشه، بينما تشرق الشمس خلفه، للمرة الأولى منذ عشر سنوات.
نهاية تراجيدية لحياة نوكتيس، لكنها نهاية عرفها منذ البداية. الوصول لها كان الجزء الصعب. يمكننا إيجاد بعض الراحة، في معرفة أن نوكتيس تقبل مصيره في النهاية، أنه مات في سلام.
لا.
تاباتا لن يسمح لك أن تجد أي راحة في هذه التراجيدية، ففي واحد من أجمل المشاهد في تاريخ فاينل فانتسي، وأكثرها نضجاً، تعود بنا الأحداث لليلة ماقبل المعركة الأخيرة. لآخر عشاء قضاه نوكتيس مع اصدقاءه.
هناك، لا يكتفي نوكتيس بتوديعهم.. بل يعترف لهم، بأنه ظن بأنه حصل على سلامه، بأنه تقبل فكرة الموت، بأنه جاهز لما هو آت.. لكن الآن، بعد ما رآهم مرة أخرى، بعد أن تذكر الحياة الطبيعية التي أراد ان يعيشها، الصداقات التي كونها.. نوكتيس يكتشف أنه كان يكذب على نفسه، يكتشف أنه مايزال يخاف الموت.
وهنا عبقرية نوكتيس كشخصية في نظري.
نوكتيس لم يرفض مصيره، ولم يقبله، لكنه يعرف أنه واجبه. نوكتيس لا يريد أن يموت، ولم يرد أن تسرق حياته منه، لكنه يعلم أنه ما ينبغي عليه فعله. قدَّر نوكتيس لم يكن عادلاً منذ اللحظة الأولى، لكنه نجح في صنع أفضل ما يمكن منه، نجح في أن يعيش بضع سنوات من السعادة، نجح في الحصول على أصدقاء كافحوا معه حتى النهاية، وحين أتت اللحظة. نوكتيس أدى واجبه.
ولعل في هذا شجاعة، أكثر من تلك التي في رفض القدَّر، أو قبوله.
ولعل إيوس ستتذكر، أن ملك النور، كان رجلاً أفضل من ذاك الذي حكت عنه الأساطير.
.
.
.
.
لم يسمح ظلم الحياة لنوكتيس ولونا أن يجتمعا، رغم كل محاولاته، لم يتمكن الملك من الوصول إلى ملكته في حياتهما.
لم يجمعهما في النهاية إلا الموت.
بموت لونا، بدأت ليلة لا تنتهي، وفقط حين إجتمع بها نوكتيس، أشرقت الشمس بفجر جديد. حقيقة لابد أنها راودت مخيلة الملك في لحظته الأخيرة قبل أن ينام نومته الأبدية.
فقط وقتها، تمتع نوكتيس ولونا بلحظة أخيرة من بعضهما.
لحظة كانت خيالهما الأخير.
التعديل الأخير: